حين يفسد الدين



كل شيء في هذا الكون قابل للفساد ، الإنسان معرض للفساد ، المؤسسات الحكومية معرضة للفساد ، الأنظمة السياسية والإجتماعية والإقتصادية معرضة للفساد ، وكل ما سبق من فساد من السهل ملاحظته ومكافحته والتصدي له ومحاولة إصلاحه ، أخطر ما يكون على الإنسان وعلى الكون حين يفسد هو الدين ، فالدين عقيدة ومبادئ وسلوك ، وفساد الدين الذي يشكل خطراً على الإنسان والأكوان ليس الفساد المترافق مع التساهل بالتدين مبدأ وعقيدة ، وليس الفساد المترافق بالتهاون ببعض السلوكيات الدينية ، إنما الفساد الديني الذي يشكل خطراً على كل ما يحيطه ، هو ذلك الفساد الذي يترافق معه التشدد بالعقيدة والمبدأ والسلوك ، هذا الفساد الذي يصيب الدين لايمكن إستشعاره ، بل على العكس هو يهب المصاب به الشرعية لكل قول وفعل لايتناسب مع الأخلاقيات والفطرة الإنسانية التي تتفق عليها غالبية المجتمعات ، ويهب المصاب به رضى المحيط الذي يحيطه، ففي الغالب الناس الذين يشتركون مع المتشدد في العقيدة والمبدأ يثقون به أكثر من المتساهل والمتهاون ، هذه الهبات التي يحصل عليها المتشدد تجعله يفسد ويعيث في الأرض ظلماً وجوراً دون أن ينبس ضميره الداخلي ببنت شفة ، فالمتشدد يكون متصالحاً مع ذاته ومنسجماً مع كل تصرفاته من أقوال وأفعال لا أخلاقية و لا إنسانية بدافع التشدد بالدين ، ولا يرى في نفسه غرابة مع تخلفه عن المحيط الذي يحيط به ، بل يوهم نفسه أنه صاحب الحق والحقيقة المطلقة وكل من يحيط به إختلافاً هو الذي يستدعي أن تثار إتجاهه كل جيوش الغرابة ، وهذه النبتة الفاسدة – أقصد بالنبتة التشدد – تنمو غالباً في بيئة معتدلة ، وتأخذ شرعيتها من المعتدلين في هذه البيئة ، وحين تنمو وتكبر تبدأ في التشدد على هذا المحيط المعتدل ، وتحاول جره معها إلى مزيد من التشدد ، وحين لا يطيعها تصفه بالتهاون بحقوق الله ، وكأن هذه النبتة تمثل المحامي على الأرض نيابة عن الله ، تقوم هذه النبتة بسرقة الله من عقول الناس وتدعي أنها هي الوحيدة التي تنمو وتُسقى من شرع الله ، ولا ترى أي شرعية لأي جهة أخرى لا تتفق معها أو حتى تختلف معها إختلافاً جزئياً ، وهنا سأورد حالة عانى منها موطني للتدليل على الفكرة ، الا وهي حادثة جهيمان الشهيرة حين قام بإحتلال الحرم المكي الشريف  ، وإدعى واهماً هو وجماعته أن المهدي المنتظر قد خرج ، فحين نعود إلى تاريخ جهيمان وكيف تشكل سنجد أنه نشأ في بيئة معتدلة ، فجهيمان العتيبي أحد أفراد الجماعة السلفية المحتسبة وبعد ذلك أصبح زعيماً لها وقام بإحتلال الحرم المكي الشريف ،تعالوا لنلقي نظرة سريعة على كيف تشكلت الجماعة السلفية المحتسبة ، تشكلت هذه الجماعة تحت مسمى الجماعة السلفية في أواسط الستينات ، وقام بتشكيلها مجموعة من طلبة العلم الديني الذين كانوا يعملون لبعض الوقت في مجال الدعوة ، وتأثرت هذه المجموعة بالشيخ الجليل محمد ناصر الدين الألباني ، وكان لدى هذه الجماعة قناعة كاملة أن كل التيارات الإسلامية بما فيها المذاهب الأربعة تحتاج إلى تنقية من بعض البدع والأفكار الخاطئة ، وتواصلت هذه الجماعة مع الشيخ الجليل عبدالعزيز بن باز بعد حدوث عدة مصادمات بينها وبين سكان المدينة بسبب تكسيرهم للصور في الأسواق والأماكن العامة وتكسير تماثيل لعرض الملابس النسائية – مانيكان- ، كان على إثر هذه المصادمات أن قبض على بعضهم وتم إيداعهم السجن ، فتواصلت هذه الجماعة مع الشيخ عبدالعزيز بن باز لتكسب شيئاً من الشرعية في نظر السكان وفي نظر الدولة ، فرحب الشيخ إبن باز بهذا التنظيم وأضاف على المسمى لفظ المحتسبة ، فأصبح مسمى هذا التنظيم  الجماعة السلفية المحتسبة ، وأصبح الشيخ إبن بازبمثابة المرشد الروحي لها وعين الشيخ الجليل أبو بكر الجزائري كنائب له في تنظيم هذه الجماعة ،تنظم التنظيم وتكامل وأصبح له هيكلة منظمة ، كان جهيمان العتيبي على رأس لجنة في هذه الهيكلة ، وهذه اللجنة كانت مختصة في تنظيم سفريات ورحلات الأعضاء للدعوة والإحتساب ، كان جهيمان وكثير من الشباب المتحمسين لهذا التنظيم أكثر تشدداً من غيرهم ، وهنا بدأت النبتة الفاسدة تنمو داخل الجماعة السلفية المحتسبة ، وحصلت مصادمات داخلية بين أعضاء هذا التنظيم بسبب بعض الممارسات والسلوكيات التي ينتهجها المتشددين داخل الجماعة ،  إلى أن حانت ساعة الصفر للمتشددين بعد وقوع تصادم عنيف بين الشيخ أبو بكر الجزائري و المتشدد جهيمان العتيبي في حادثة السطح ، حيث عُقد الإجتماع على سطح بيت الاخوان وهو المقر الذي كانت تُعقد فيه إجتماعات الجماعة ، وأنشقت الجماعة إلى شقين أقلية ذهبت مع الشيخ أبو بكر الجزائري وغالبية من الشباب المتحمس إنظمت ووثقت بالمتشدد جهيمان العتيبي ، بعد هذا الإنشقاق أصبح جهيمان هو الزعيم للجماعة السلفية المحتسبة إلى أن قام بفعلته و أحتل الحرم المكي الشريف ، ومن هنا يبدو لنا جلياً كيف يمكن للمتشدد أن ينمو ويتطور تشدداً في كنف المعتدلين ، فمن يشك بأن شخص تأثر بالشيخ الألباني وكان الشيخ إبن باز مرشداً روحياً لتنظيم يخضع له والشيخ أبو بكر الجزائري نائب يقوم على هذا التنظيم أن يقوم بفعل كالقيام بإحتلال الحرم المكي الشريف ؟! ، بل الأدهى والأمر أن الملك فهد رحمه الله قد ذكر في لقاء مع صحيفة السفير اللبنانية حينما كان ولي للعهد حيال حادثة جهيمان ، أن الدولة والحكومة السعودية قامت ببعض الأجراءات ضد هذا التنظيم قبل إحتلال الحرم ، ولكن كان هناك رجال دين وهم كثيرون يتدخلون للإفراج عنهم  ، هكذا هي نبتة الفساد الديني تنمو وتشرب في ضفة نهر الإعتدال ، وتأخذ شرعيتها منهم ثم ماتلبث إلا أن تنقلب عليهم وتصفهم بالإنحلال ، فالغالبية من التنظيمات الإرهابية الفاسدة دينياً أخذت شرعيتها في البدء ممن نعتبرهم معتدلين ثم عاثت في الأرض فساداً دون أن يكون هناك لها ضمير إنساني يعاتبها ولو بقليل العتب ، لذلك أخطر ما يكون على الإنسان والأكوان هو الفساد الديني من خلال التشدد ، لا تقلق من المتهاون والمتساهل بدينه أكثر من المتشدد إلى حد الفساد بدينه ، فالإنسان حينما يفسد سيصلحه المجتمع ، لكن الدين حينما يفسد سيفسد المجتمع.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معزوفة تارتيني (هزة الشيطان) ... ومعزوفة العرب (هزة الغباء)

من المستفيد من تواجد داعش؟

نعم ... نريد الوصول للمرأة