إبراهيم السكران ... وصوت العقل



طرح الشيخ إبراهيم بن عمر السكران مقال حمل عنوان "صوت العقل في تنظيم الهيئة الجديد" ، وبحكم أني من عشاق المنطق العقلي في تناول الأمور والمناقشات فرحت جداً بهذا المقال وغرني جداً بهذا العنوان ، في بداية المقال قام الشيخ حفظه الله بتشريح الموافقين والمؤيدين للقرار إلى ثلاث شرائح ، الأولى شريحة فاسدة فرحت بالقرار لكي تمارس فسادها بكل حرية ، وهذه الشريحة إن أفترضنا جدلاً وجودها لا يلغي وجود فاسدين أيضاً ضد قرار التنظيم ، ليس من منطلق حماية الفساد من عدمه ، ولكن من منطلق "أحب الصالحين ولست منهم" الذي تم تعزيزه في عقول الفاسدين بحيث أنك تكون بحال أفضل حينما يبتليك الله بالفساد ولكنك لاتعارض أوامر الله ، هذا المنطلق خلق لنا عقول تستمرئ الفساد وتجدها في الصف الأول من قطيع الدفاع عن الهيئة أو أي رمز ديني يتم حصر أمر الله لهم به ، ومن أهم الرموز التي تم حصر أمر الله بها هو جهاز الهيئة الحكومي الخاضع لسلطة الدولة ، فكل ما عليك هو مجرد إلقاء نظرة على الحسابات التي تدافع عن الهيئة ستجد غالبيتها في قمة الإنحطاط والفساد الأخلاقي ، هل يمكن هنا ياشيخ إبراهيم أن نقول بأن الفاسدين أخلاقياً يدافعون عن الهيئة لأنها تؤمن فسادهم ؟ ، لا أعتقد أنك تتفق معي بهذا الرأي .
الشريحة الثانية التي تطرق لها مقال صوت العقل هي شريحة "الإلزام الشرعي ومعارضته للحرية" وهذه الشريحة يرى الشيخ إبراهيم عدم إستحقاق مناقشتها لأنها تعاني من القصور المنهجي ، لأن النقاش معها سيكون نقاشاً في التطبيق قبل الإتفاق على القاعدة نفسها ، وهنا أقول لك ياشيخ إبراهيم أن القرار جاء في ألية التطبيق وليس في قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما القاعدة ( في نظرك فقط ) فهي قاعدة الإلزام وهذا أمر تختص به الحكومة وليس الأفراد ، ولو كان الإلزام فردياً لتحولت الدولة إلى فوضى من الإحتساب  ، والحكومة هي من تخول الصلاحيات لأي جهاز حكومي خاضع لسلطتها ، ثم أن الحكومة لم تجعل "الحرية ليبرالية متجاوزة للعدل" كما صنفتها  بل هي أعادت بعض الصلاحيات مثل القبض واللإستجواب والمطاردة إلى الجهات التي تختص بمثل هذه الأمور ، وتصويرك إلى أن الحكومة نزعت الصلاحيات وجعلتها حرية مطلقة هو تصور يعاني من قصور أكثر من القصور الذي صورت به هذه الشريحة .

بعد تفنيد هاتين الشريحتين نأتي إلى لب الموضوع , وهي الإتجاهات الأخرى التي تواضع الشيخ إبراهيم وقدم لها إمتياز المناقشة معه ،  ولا أعلم ماهية هذه الإتجاهات الأخرى سوى أنها قادمة من خلفيات أخرى وتحمل مبادئ ولديها شعور بالمسؤولية  وتستغرب من الضجة التي أحدثها تنظيم الهيئة ، ويضج بعقلها سؤال بريء " ما المشكلة في هذا التنظيم؟"
الشيخ إبراهيم ألمح في بداية تناوله النقاش عن هذه الشريحة أن هذه الشريحة لم تستوعب أصلاً مغزى ومرمى هذا التنظيم ، وبعد إطلاعي على كامل المقال لم أصل إلى المغزى والمرمى الذي يرمي له الشيخ إبراهيم حفظه الله ، فقد يكون عقلي قاصراً ويحتاج إلى مزيد من التوضيح حيث أنني لم أصل إلا إلى مرمى ومغزى واحد ، وهو أن الحكومة ترغب في تنظيم هذا الجهاز وإعادة الصلاحيات للجهة المناسبة للقيام بتنفيذها ، فإن كان هناك مرمى ومغزى اخر فعلى الشيخ إبراهيم مباشرة التوضيح له بمزيد من التفصيل .
بدأ الشيخ إبراهيم في مخاطبته لهذه الشريحة التي نالت شرف مناقشته بتبيان أهمية جهاز الهيئة ووصفها بأنها مؤسسة الضبط الأخلاقي للمجتمع ، وكأن الأجهزة الأخرى لاتقوم بذات الدور فكل الجهات الرسمية تعتبر بشكل أو بأخر منظم ومسيطر لأخلاقيات ونشاطات المجتمع ، ثم تطرق بعد ذلك إلى التقرير السنوي للعام المالي(1434هـ / 1435 هـ ) المرفوع من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحين أطلعت على الأحصائيات ذهلت من عدد الضبطيات التي ضبطها الجهاز خلال عام واحد ، فقد وصلت الوقائع الجنائية المضبوطة خلال ذلك العام ثلاثمائة وثلاثون ألف ومائتان وخمس وثلاثون واقعة نعم عزيزي القارئ (330235) واقعة ضبطها جهاز الهيئة في عام واحد ، هذا جهاز واحد كيف لو قمنا بجمع كل ضبطيات الأجهزة الأخرى مثل الشرط ومكافحة المخدرات إلى أي رقم سنصل  ،تبادر إلى ذهني عدة أسئلة بعد أن صعقني هذا الرقم المهول والباذخ بالضبطيات الجنائية ، هل أنا فعلاً أعيش في هذا المجتمع ؟ ، أم أن المجتمع الطيب والكريم بفطرته غير المجتمع الذي تعمل به الهيئة ؟ ، هل هذا المجتمع غائص بالفساد إلى هذه الدرجة ؟ ، أم أن الفساد الذي تتصدى له الهيئة لا يراه إلا موظف الهيئة ؟ ، بعد أن أكملت قراءة الإحصائية السنوية وجدت ما يشبه الإجابة على بعض تساؤلاتي ،ففي التقرير قسمت هذه الضبطيات إلى قسمين القسم الأول وهو "القضايا" والقسم الثاني هو "المخالفات" ، وأستنتجت ما يشبه الإجابة من النسبة المئوية بين القضايا والمخالفات ، فالقضايا لم تتجاوز نسبتها 10% بينما المخالفات وصلت إلى 90% ، هذا الفارق الهائل بالنسبة المئوية أوصلني إلى ما يشبه الإجابة ، فمجتمعي ليس بكل السوء الذي تصورته عند قراءتي لرقم الضبطيات بقسميها القضايا والمخالفات ، مجتعي مثل أي مجتمع هناك الخير الكثير ولا ينعدم منه الشر  ، لكن جهاز الهيئة أحب بهذه الإحصائية أن يصور لي أنه مسيطر على الكثير من الشر ويحمي المجتمع منه ، "فالقضايا" التي تحمل نسبة 10% هذه وقائع جنائية ترفع للجهات المسؤولة ويتخذ فيها الأجراء اللازم من التحقيق إلى البت بحكم القضية وقد يكون الحكم بالبراءة وعدم الادانة يُسقط نسبة 2% على أقل تقدير فيتبقى لنا مانسبته 8% هؤلاء مذنبون وهذا رقم بسيط  وطبيعي ، لكن "المخالفات" التي تحمل نسبة 90% من هذا الرقم الصادم لمجموع الضبطيات هي مربط الفرس ، فهذه " المخالفات" يتم التعامل معها وإنهاؤها من قبل الهيئة وفي العادة يتم اخذ التعهد على المخالف بعدم العودة ويخلى سبيله ، والسؤال هنا ماهي نوعية المخالفات ؟ ، أعتقد أن القبض على شاب في محيط مركز تجاري يعد من هذه المخالفات ، وأعتقد أن شاب يرفع بصوت أغنية عبر مسجل سيارته تعد مخالفة ، وأعتقد أن شاب بقصة شعر غريبة تعد تلك مخالفة ، والكثير الكثير من المخالفات التافهة التي لا يمكن أن تبني من خلالها أهمية الجهاز من عدمها ، وقد يتبادر إلى ذهني إحتمال أخر بأن منسوبين الجهاز حريصين على البحث وتسجيل مثل هذه المخالفات التافهة لكي يوهمون أنفسهم والمجتمع بانهم على ثغر عظيم في محاربة الفساد ،  أما تفنيد الشيخ إبراهيم حفظه الله للوقوعات من تصنيع الخمور والإبتزاز وغيره فهذه الوقوعات قد يباشرها الجهاز المختص بعد أن ترفع له الهيئة بذلك ولدينا ولله الحمد أجهزة ضبط جنائي في غاية الكفاءة والقدرة على إنجاز المهام .

وبعد أن اورد الشيخ إبراهيم حفظه الله هذه الإحصاءات والمعلومات المقتبسة من التقرير السنوي قرر أهمية أن يكون " الضبط الجنائي" من صلاحيات الهيئة ، وهذا ماكانت تدور حوله الدوائر من بداية مقال صوت العقل ، فقد قام الشيخ حفظه الله في محاولته لإقناع العقل ببقاء صلاحية "الضبط الجنائي" ضمن صلاحيات الهيئة من خلال "مقال صوت العقل" ، بتشريح المجتمع حسب ردات فعلهم ، وبعد ذلك قام بتفنيد التقرير السنوي الذي يحمل برقمه العام تشويهاً للمجتمع وحين نفصله نجد أن 90% مجرد مخالفات تُنهى في حينها ومن قبل الهيئة ، وقد تكون هذه المخالفات خاضعة لمزاجية عضو الهيئة المباشر لها لعدم وجود تقنين واضح لما يتم إنكاره ، ثم أورد بعد ذلك تفصيلات قانونية لا اعتقد أن الدولة التي صاغت هذا القانون غفلت عنها وأهملتها ، ويرى الشيخ إبراهيم أن القرار غير مدروس ، ودلل على ذلك بأن مؤسسة الشرطة تعاني من أعباء هائلة ولا تستطيع تحمل كل هذه الضبطيات ال (330235) وهي في حقيقة الحال لا تتجاوز  (33500) لو حسبنها رياضاياً وإستنتجناها  من قيمة "القضايا" 10% ، حيث أن ما تبقى وهي 90% مجرد مخالفات كانت تُنهى في مركز الهيئة فبإمكان مؤسسة الشرطة التعامل معها بالإنهاء كما كانت تفعل الهيئة ، فلا حاجة للشيخ إبراهيم بهذا التهويل من عدد ضبطيات الهيئة والرحمة والتشفق على مؤسسة الشرطة ، فكل العالم يسير بضبط جنائي دون الحاجة إلى وجود جهاز هيئة تحديداً ليضبطه ، ونحن بقعة من ضمن هذا العالم، وأغرب ما تطرق له الشيخ إبراهيم في نقده للقرار هو قوله في تعليقه على المادة السابعة من التنظيم الجديد (تتولى الهيئة تقديم البلاغات) "أنه أمر لا يعزز روح الثقة بين المواطن والمسؤول" ، عن أي ثقة تتحدث! ، وذهنية رجل الهيئة خلال أداء عمله تقوم بالأساس على نزع الثقة بينه وبين الموطنين ، والدخول في نواياهم فكم من شخص تم إستيقافه هو وزوجته للتأكد هل التي ترافقه زوجته أم لا ؟ ، بل إن عضو الهيئة ليثق في لون ثلاجة المنزل أكثر من ثقته بالمواطن المشكوك فيه ، فرفقاً بنا ياشيخ إبراهيم وليكن للعقل صوت فيما تطرح ، أما مقارنتك بين الحارس المدني وعضو الهيئة فما هي إلأ محاولة إستدرار عاطفة ليس للعقل بها شأن ، وبقية المقال إندرجت تحت هذا الخطاب العاطفي البعيد كل البعد عن صوت العقل ، إلا في نقطة واحدة وهي خطيرة جداً وهي ما ألمحت له حيال "التهديد الإيراني" وحيال " أصحاب الغلو وإستحلال الدماء " وتقصد بالثانية اصحاب المذاهب المتطرفة مثل (القاعدة و داعش وجبهة النصرة) ، وما قد يترتب عليه أثر هذا التنظيم حيالهما ، أما إيران فلديها جهاز تابع لولاية الفقيه يشابه إن لم يطابق ما تقوم به الهيئة ، وهذا يُسقط الإستثناء الذي أوردته بأن المملكة العربية السعودية كانت تفاخر بهذا الجهاز لأنها الوحيدة التي شرعنته ضمن أجهزة الدولة ، والمملكة العربية السعودية حين تفاخر فهي تفاخر بثقلها السياسي والإقتصادي والعالمي قبل أن تفاخر بجهاز من ضمن أجهزتها ، إن كان هذا أخر قمم الفخر في تصورك فإن بلادي التي أعرفها جيداً تفاخر بما هو أعظم من ذلك بكثير ، وأعود إلى ما ألمحت أليه فما شأن التهديد الإيراني بقرار داخلي يخص جهاز من أجهزة الدولة ؟ , الحقيقة أنني لا أملك جواباً ولا شبه جواب حول هذا السؤال ، أما الخطر الأخر وهو المتطرفين ، فهل رأيت أعمالهم توقفت وجهاز الهيئة بكامل صلاحياته ؟ ، أم أنك تريد من الدولة أن تسترضي المتطرفين بمنح الهيئة مزيداً من الصلاحية لكي يكفوا عن أعمال الإرهاب التي يقومون بها ؟ ، لعمري إن هذه النقطة التي أوردتها على الهيئة وليست لها ، فما يرضي المتطرف إلا مزيداً من التطرف  ، وحكومتنا ضربت بيد من حديد على قلب الإرهاب ولن تتراجع عن قرار لتسترضي به متطرفاً ، فهذا الملمح يشبه التهديد المغلف بالنصيحة ، بأنه إذا لم تتراجع الحكومة عن هذا القرار فإن الإرهاب سيضرب دفاعاً عنه وحمية للجهاز وكأن الدولة قد كفرت بعد هذا التنظيم ، ولا أشكك بوطنيتك ياشيخ إبراهيم ولكن مثل هذه التلميحات لاتصدر إلا على لسان جاهل وكيف بك وأنت من عنونت مقالك بصوت العقل ، فمن كان يحمل نفساً متطرفاً وينتظر قرار حكومي لا يرضى عنه لينفس عن تطرفه سيجد سداً منيعاً من أبناء هذا الوطن في وجهه فهذا الوطن سنحميه من أي إحتمال .

وفي الختام إن أخطر ما يقع ليس تكبيل أيدي جهاز قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إن أخطر ما قد يقع فعلاً هو إستمرار الفوضوية داخل جهاز يظن المنتسبين له أن إرتباطهم بالسماء وليس لهم أي إرتباط بمنظومة الدولة ، بحيث أن هذا الجهاز يرى المؤيد له أن له صلاحية مطلقة في تحديد مهامه وصلاحياته ، هذا الجهاز الذي أحرج الدولة كثيراً بتصرفات حمقاء بسبب الفوضوية التي كان يعيش في كنفها ، فحين يأتي تنظيم لهذه الفوضى لن تجد معترضاً إلا من كان يرى فعلياً أن هذا الجهاز خارج عن منظومة الدولة ، وان له إستثناء خاص يميزه عن بقية الأجهزة الحكومية ويؤمن بذلك إيمان خالص  ، عند أي خطأ لأي جهاز حكومي يكاد يجمع الشعب والمجتمع على نقد هذا الخطأ دون البحث عن مبررات إلا حين يخطى عضو الهيئة فالشعب ينقسم إلى قسمين ، قسم يببر الخطأ وقسم كما كان مع بقية الأجهزة ينتقد الخطأ ، هذا الجهاز الذي يقسم الشعب إلى قسمين ليس بجهاز عادي من ضمن أجهزة الدولة ، يجب أن يعاد تنظيمه حتى يعود فعلياً مؤسسة من ضمن مؤسسات الدولة ... وعلى وطن متوحد نلتقي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معزوفة تارتيني (هزة الشيطان) ... ومعزوفة العرب (هزة الغباء)

من المستفيد من تواجد داعش؟

نعم ... نريد الوصول للمرأة